كلمة تحاور عبد الله
الزواري
"محنتنا
مثلما يمكن أن تؤدي إلى التطرّف تؤدّي إلى الاعتدال"
"لا
وجود لوثيقة رسمية تنصّ على أنّ حركة النهضة تريد الوصول إلى إقامة دولة دينية"
"الحد
الأدنى هو الحقوق المضمونة في كافة العهود والمواثيق الدولية والتي يجب أن تتوفر
لكل مواطن"
التقيت
بعبد الله الزواري في ضواحي مدينة جرجيس الجنوبية حيث يعيش المنفى الداخلي بعد
عقوبة سجنية فاقت الـ12 سنة. منفى مضاعف بإجراء الفصل الاعتباطي عن الأسرة المقيمة
بالعاصمة. قساوة الظروف واشتداد المحاصرة الأمنية المستمرة المضروبة عليه لم تمح
علامات الانشراح الطبيعي التي تبرز على وجهه. بعض الدقائق تكفي لإشعارك بأنّه هزم
الحصار الأمني وانغمس بسهولة عجيبة في أعماق محيطه الاجتماعي.
من
الحديث مع عبد ألله الزواري نستخلص لا فحسب أنّ إرادته تدعّمت خلال سنوات السجن بل
أنّها تعزّزت بفضل الانفتاح وحيوية التفاعل الفكري. ما من شكّ وأنّ حضوره سيدخل
تنشيطا على الساحة الإسلامية التي شهدت فتورا عميقا يرجع إلى بداية الحملة القمعية
التي تعرّضت لها في بداية التسعينات من القرن الماضي. حوار بدون مجاملة و رد صريح و
دقيق.
كلمة : سجنت في بداية 1991 وخرجت في 2002 ثمّ عدت إلى السجن على فترتين
وأطلق سراحك من جديد وإنشاء الله نهائيا قبل الانتخابات بقليل. هل رصدت تحولات على
الساحة التونسية حصلت خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 1991 و2004 ؟
عبد
الله الزواري : لقد شهد مجتمعنا نموّا خاصة في البنية التحتية في الجسور والطرقات
ولكن هذه أشياء من الطبيعي أن تنمو والشيء الطبيعي لايستدعي ثناء ولاشكرا. لكنّه في
نفس الوقت شهد تدهورا وتأخرا في الجانب الاجتماعي و السياسي. ففي التسعينات كان
الشباب يولي اهتماما للجانب السياسي والساحة السياسية وانتمى الشباب إلى الحركات
السياسية المختلفة ولاأقول إلى حركة النهضة فقط بل مختلف الأحزاب السياسية التي
كانت متواجدة سنة 1990 وما قبلها. وكان هناك نوع من الامتداد الشعبي، يبرز ذلك في
أنّ الأحزاب السياسية وقتها كانت تصدر مجلاّتها وجرائدها الناطقة باسمها رغم
الإيقافات ورغم الغرامات المالية التي تسلط عليها وكانت تصدر دون إعانات رسمية ودون
منح.
في
الوقت الحاضر بعد 12 سنة يبدو أنّ الهم السياسي واهتمام الشعب بالشأن السياسي
تقلّص. وحركة النهضة هي من أبرز المتضررين من هذه الوضعية. ثمة ثقافة أخرى وإعلام
آخر وتكوّن لعقلية جديدة صنعها الحزب الحاكم بالمال والإمكانيات لثني الشباب عن
الهم السياسي وتنفيره منه بالترهيب والترغيب وخاصة التخويف المبالغ فيه وإنّ عملية
إحصاء بسيطة ستبين أن عدد الإضرابات التي وقعت منذ التغيير إلى الوقت الحاضر قد
لاتساوي عدد الإضرابات التي كانت تشنّ في عام واحد قبل ذلك. هناك توجّه نحو الهمّ
الذاتي والاعتناء بالمصلحة الشخصية دون الاهتمام بمصلحة البلاد وسمعتها وكل شأن عام.
كلمة : تشير هنا بالتدقيق إلى بعض المظاهر التي ترجع إلى ظاهرة أعمق هي
تفشّي النمط الاستبدادي في بلادنا الذي يبدو في وضعية انتعاش. هل هذه المعاينة تعني
إخفاق جميع البدائل - ومن بينها البديل القومي والبديل اليساري والبديل الإسلامي
والبديل اللبرالي - التي حاولت أن تطرح نفسها بديلا عن الاستبداد الدستوري الحاكم
منذ الاستقلال ؟ فجميع هذه البدائل لم تستطع فرض نفسها داخل المجتمع ولم تقدر على
تشكيل رادع للنمط الاستبدادي الحاكم. هل تستدعي هذه المعاينة إدخال بعض التصحيح في
تناولك لموضوع مقاومة الاستبداد؟
عبد
الله الزواري : صحيح أن جميع البدائل المعارضة أخفقت في التصدي لاستبداد الحزب
الحاكم. وهذا جليّ للعيان. ومن أسباب هذا الإخفاق أنّ المعارضة في وقت من الأوقات
لم تستطع أن توجد القاسم المشترك بينها لمقاومة الحزب الحاكم. وبعض الأحزاب بدأت
تبحث عن أيسر السبل لتوفّر لنفسها موطئ قدم. فكانت سياسة الوفاق مضرّة بالبلاد قبل
الإضرار بالمعارضة. وقد نتج عنها تكريس الاستبداد وزاد انتشار الخضوع والخوف
والرهبة وزاد الاستبداد تكشيرا عن أنيابه وتكريسا لمقولاته. وفشلت المعارضة في
التصدّي له ولايزال ذلك متواصلا إذا لم تتدارك المعارضة الأمر وما لم تعلم أنّ ما
يجمعها للتصدي للحزب الحاكم أكثر من الذي يفرّقها، وأبرزها المطالبة بحقوقنا التي
لايعتبرها الحزب الحاكم حقوقا بل يعتبرها منّة... ومالم تصل المعارضة إلى قناعة
بأنّ حقوقنا لابد أن تتوفر لكل الناس. فأحزاب المعارضة واتحاد الشغل وغيرها من
المنظمات الحقوقية وإن ضيّق عليها الخناق في الوقت الحاضر ومورست ضدها أمور كثيرة
وهذا لم يحدث اليوم فقط فيوم ضربت حركة النهضة كان ذلك مقدمة لضرب كل صوت حر يعتبر
نشازا خارجا عن الصف. ولم تقدّر المعارضة مع الأسف في وقت من الأوقات معنى ضرب حركة
النهضة ومعنى غياب حركة النهضة.
في
الوقت الحاضر نتجرع آلام ذلك، استطاع النظام الحاكم أن يمرر مقولاته واستطاع أن تمر
سنوات طويلة دون مفاوضات اجتماعية جدية ودون وجود منافس جدّي في الانتخابات رغم
كونها صورية لالشيء إلاّ لكون المعارضة سلّمت في وقت من الأوقات في حزب من الأحزاب
كان ما يوحّدها معه أكثر ممّا يجمعها بالنظام
"داخل
كلّ كتلة هناك عديد المدارس وعديد الآراء والاتجاهات"
كلمة
: ما تشير إليه أنت هنا عيّنة لا
يمكن لأحد نفيها لأنّ أغلب المعارضين والمعارضين العلمانيين كانوا سلبيين في قضية
قمع النهضة
عبد
الله (مقاطعا) لاننسى أنّ بعض الأطراف وبعض الأفراد لم يكونوا مؤيّدين للنظام...
كلمة :
الدافع الأساسي في موقف العلمانيين هذا جاء من كونهم يعتقدون أنّ حركة النهضة
بالمشروع المجتمعي الذي كانت تتبنّاه وهو نمط الدولة الإسلامية كان يشكّل استبدادا
أخطر وتخشاه أكثر من الاستبداد الدستوري. وكانت هذه الأطراف ترى أنّ القواسم
المشتركة مع الإسلاميين محدودة وظرفية لأقصى درجة وغير مبنية على قواعد تعامل وعلى
خيارات واضحة تدفع نحو تراجع الاستبداد عن المجتمع. هل سجّلت الآن في 2004 تغييرا
من هذه الناحية وهل أنّ الأطراف المختلفة أنتجت شيئا يميّزنا عن وضعية 1989 ؟
عبد
الله : هناك كلمة جميلة لإدوارد سعيد تقول "من الخطأ في الوقت الحاضر اعتبار الغرب
كتلة واحدة أو اعتبار المسلمين كتلة واحدة أو اعتبار أمريكا كتلة واحدة" فداخل كل
كتلة هناك عديد المدارس وعديد الآراء والاتجاهات. نحن في الحركة الإسلامية على
الأقلّ في أدبياتنا وفي بياناتنا لاأذكر بيانا ينصّ أو وثيقة رسمية تنصّ على أنّ
الحركة الإسلامية حركة النهضة تريد الوصول إلى إقامة دولة دينية، بهذه العبارة. ثمة
شعارات نجدها عند اليسار وعند القوميين وهي شعارات مثل تعميم الديمقراطية ومن ناحية
اقتصادية إعطاء كل ذي حاجة حاجته وهي شعارات فضفاضة كبيرة ولكننا لانجد ولاأذكر
أبدا أن نجد في أي بيان أو أي وثيقة رسمية هذه الكلمة، الدولة الدينية أو الحكومة
الدينية أو الدولة الإسلامية. وبالنسبة إلى المعارضة يمكن أن تكون سمحت لنفسها أن
تحاكم الآراء. فالحركة الإسلامية كان فيها عبد الفتاح مورو وبن عيسى الدمني وراشد
الغنوشي وصالح كركر يمكن أن نقول كانت آراؤهم متباينة. تحاكمنا أحزاب المعارضة على
النوايا، ماقد نفعله. وإذا سمحت لنفسها بمحاكمة خصمها الطرف الآخر على نواياه
فلتسمح لي أيضا كي أحاكمها مثلها. قبالنسبة إلى القوميين ماذا صنعتم في ليبيا وفي
مصر. وبالنسبة إلى البعثيين، ماذا فعلتم بسوريا والعراق. وماذا فعل اليساريون في
دول أخرى... بقينا نتآكل ونتناحر ونوجّه أصابع الاتهام الواحد إلى الآخر لكن نسينا
الخصم الأساسي الذي سجن اليوسفيين والقوميين واليسار واضطهد جميع الأطراف ولايزال.
نعم يوجد بين الإسلاميين متطرفين كما يوجد عند جميع الأطراف. لكنّ هذا التطرف يمكن
معالجته بفتح آفاق الحوار والحديث والنقاش وليس الاضطهاد والسجن والتعذيب من سيقضي
على التطرف لأنّ العنف يستدعي العنف.
لاتوجد
في نصوصنا دولة دينية أو دولة إسلامية، ثمّة شعارات في البيان التأسيسي لحركة
الاتجاه الإسلامي يمكن لأطراف أخرى أن تدعو إليها. ولو كنّا جادّين في التصدّي
للحزب الحاكم فلنتعاون مع بعضنا على الأقلّ في الحدود الدنيا التي نتفق فيها
ونوفرها لجميع الأطراف
"تعرضنا
لهذه المحنة بقدر ما زادنا إصرارا على التمسك بالحقوق بقدر ما سيجعل الإنسان يشعر
بأن غيره يجب أن يتمتع بتلك الحقوق"
كلمة : كلما تعرض حزب سياسي لمحنة ادث داخله فرز، فيقع رجوع إلى الذات
وتأملات ومن الصعب أن تخرج هذه التيارات بانسجام. في بعض الأحيان تحصل قطيعة عميقة،
وهذا حدث مع اليسار. فقد وقعت تباينات مع المرجعيات الفكرية التقليدية لليسار، مع
العقيدة ووقعت تطوّرات في نقاط واضحة وبيّنة. إلاّ أنّنا لانرى مثيلا لذلك حدث عند
الإسلاميين. كما أنّ الشغور الذي تركته حركة النهضة بعد قمعها ترك الساحة واسعة كي
يرتع فيها الاستبداد. علما أنّ ثقل الحركة الإسلامية في تونس لايمكن لأحد نفيه سوى
اعتباره يدفع في نطاق إيجابي أو سلبي وهذا ينطبق اليوم على تشييد المؤسسات
الديمقراطية... هل يمكن أن نتحدث عن تحوّلات بالنسبة إلى
الإسلاميين وعن دخولهم مرحلة ما بعد حركة النهضة ؟
عبد
الله الزاواري : الظروف التي توفرت لليسار وسمحت بنقاش ومراجعات وتفكير وجدال بين
الأفراد لم تتوفر في الوقت الحاضر لسجناء حركة النهضة. فبعد 14 سنة بعض القيادات
تعيش في عزلة فكيف يمكن له أن يقيم مراجعات أو يتحدث أو يناقش ويبحث ماهي الأخطاء
ولماذا... أصبحت المطالب أن يتناول قرص دواء أو أن يقضي وقته مرتاحا أو أن يذهب
للزيارة. كانت الكتب متوفرة لسجناء اليسار وفي الوقت الحاضر لاتجد كتابا واحد لدى
السجين الإسلامي. توفرت لليسار ظروف المراجعات للقطع مع العقيدة وغير ذلك... ولكننا
في السجن نجد أنفسنا مجبرين على خوض نضالات من أجل أشياء بسيطة جدا. يظل الواحد
حبيس النقد الذاتي بينه وبين نفسه في الليالي الكئيبة في الزنازين الانفرادية. وفرق
بين المراجعة الفردية والمراجعة الجماعية. ولقد وفرّ النظام من حيث يدري أو
لا
يدري سببا للسجناء كي يزدادوا حقدا عليه ونقمة على سياساته.<o:p</o:p
أمّا
داخل البلاد فأنت تعرف وضعية الناس. كل في ركن قصيّ يمضي على المراقبة كل يوم أو كل
أسبوع. أمّا في المهاجر فلا أظن أنّهم يصلون إلى شيء لأنّ الناس متفرقون في جميع
أنحاء العالم ذُكر لي أنّهم يتوزعون على 62 دولة. محنتنا مثلما يمكن أن تؤدي إلى
التطرف تؤدّي إلى الاعتدال. وما أشعر به هو أنّ تعرضنا لهذه المحنة بقدر ما زادنا
إصرارا على التمسك بالحقوق بقدر ما سيجعل الإنسان يشعر بأن غيره يجب أن يتمتع بتلك
الحقوق. ومن غير المعقول أن التونسي يحرم من أبسط الأشياء التي يتمتع بها الإنسان
في كينيا وفي زمبابوي وفي مالي وفي دول ما تحت الصحراء. وهنا بدع ومقاربات في
بلادنا خرجنا بها إلى العالم وهي فضائح تدلّ على عجز النظام عن مواجهة معارضيه
كلمة : لقد كان هناك في بعض الحالات عداء كبيرا بين أتباع النهضة وبعض
الأطراف العلمانية. الآن وقع بعض التغيّر، وهناك التقاء حول مطالب دنيا ومبادئ
مجرّدة مثل العفو العام والحق في النشاط... وهذا تطوّر. ألا تعتقد أن هذا مجرّد
اعتراف شكلي بالآخر من الطرفين لايزال محاطا بتحفظات قويّة ؟
عبد
الله : على كل بعد هذه السنوات أصبحت العلاقة أفضل بكثير مع عديد أطراف المعارضة
خاصة المعارضة غير القانونية أو الأوساط الحقوقية. وتجربة التنسيق مع المعارضة بدأت
من 1981 وحصلت كثير من الانتكاسات وللتاريخ الذين كانوا يمثلون حركة النهضة كانت
تصريحاتهم دائما لفائدة الجلوس مع أي طرف كان. بينما الوحدة الشعبية 1 كانت ترفض
الجلوس مع الوحدة الشعبية 2 وبعد ذلك حزب العمال الشيوعي رفض الجلوس معنا. وفي
الوقت الحاضر وصلنا درحة من الاعتراف الضمني لكن ذلك هو سقف يجب الترفيع فيه. ولم
يوجد أي بيان من حركة النهضة يرفض حرية التعبير لأي طرف مهما كان تفكيره أو توجهه.
لكن إلى هذا الحد هناك نقص. واقتراح ميثاق شرف بين المعارضة وجيه لأنّني أعتقد أنّ
قدرتنا على التصدي للحزب الحاكم هي قدرتنا على التضامن وأن نكون يدا على الخصم الذي
اضطهدنا ومرر سياساته بتفريقنا. وبدون ذلك ستبقى سنوات الاستبداد طويلة أمامنا.
"أنا
لا أقبل ولا أعين ولا أزكي سياسة تسير وفق ماعانيناه وما سلّط علينا"
كلمة : في تونس ثمة تقاليد عريقة تطورت في الكفاح ضد المستعمر هي
تقاليد علمانية. وثمة فصائل علمانية قوية عندها مراجعها وعندها خطابها. هل هذه
الأطراف لها ما تخشاه على حقوقها وحرية تصرفها لو انتظمت انتخابات عادلة وحرة مع
فرضية تفوّق التيار الإسلامي ؟
عبد
الله : أعتقد من خلال المعطيات المتوفرة لديّ من خلال الأشخاص الذين أعرفهم وأعرف
أفكارهم في تاريخ الحركة الإسلامية في تونس وما صدر عنها أنّه لاخشية على أي طرف
سوى علماني أو غيره. بل أعتبر أن للتونسيين حقوقا لايضمنها الدستور فقط بل تضمنها
قراءة معينة للإسلام. وإنّ تواصل الاضطهاد المسلط على الإسلاميين من شأنه أن يلزم
الطرفين واستمرار هذا التعسف من شأنه أن يوجد متطرفين لكن لاأعتقد في يوم من الأيام
أن المتطرفين سيكونون أغلبية. وتاريخيا توجد عدة قراءات. وفي الوقت الحاضر لايوجد
عندنا داخل حركة النهضة شخص نستطيع أن نقول إنّه متطرف وعندما يصل سدة الحكم سيفعل
كذا وكذا. وأنا لا أقبل ولا أعين ولا أزكي سياسة تسير وفق ماعانيناه وما سلّط
علينا. وإنّ الحرمان من حرية التعبير ومن حرية التنظم وهي حقوق مقدسة لكل تونسي بل
لكل إنسان هذه الحقوق لايمكن ربطها بالعلمانية ونفيها عن الإسلاميين. وفي الوقت
الحاضر الأحزاب المعارضة المعترف بها رغم كونها علمانية فهي المكرسة لهذه السلطة.
يعني أنّه يوجد علمانيون يزكّون الاستبداد مثلما يوجد كذلك إسلاميون.
"نتمنّى
أن يتوفر لنا جوّ من الحريات... وذلك ما من شأنه أن يحدث فينا النقلة سواء داخل
الحركة الإسلامية أو داخل حركات المعارضة بكافة أطيافها"
كلمة : في فترة التسعينات وبداية القرن 21 على الساحة الإقليمية وقعت
تحوّلات لأنّ هناك إخفاق كبير في التجربة السودانية وجرائم شنيعة اقترفتها الجماعات
الإسلامية المسلحة في الجزائر - ثبت فيما بعد أنّ قسطا منها كان بتدبير من قيادات
الجيش - السودان لقيت شجبا قويا من عدة أطراف حتى بعض الإسلاميين. التجربة
الإيرانية عرفت مرحلة مابعد الثورة والآن
الدولة الإسلامية في إيران تعرف تراجعا واحتجاجا
على النمط الاستبدادي وبرزت تيارات إصلاحية. وأخيرا النجاح الحالي للتجربة التركية
الذي هو نمط جديد. هل هذه التحولات لقيت صدى وتفاعلا من قبل الإسلاميين في تونس ؟
عبد
الله : كان الإسلاميون في تونس يطلعون على هذه التجارب وكان هناك بعض الأفراد
المتأثرين بالتجربة الإيرانية وبعضهم بالتجربة السودانية والبعض الآخر له علاقات
حميمة وقوية بتجربة جبهة الانقاذ الجزائرية. لكن ما يمكن أن نتفق عليه مبدئيا هو أن
هذه التجارب وخاصة الإيرانية والتركية
لها داخل المجتمعين قوانينها..
أعتقد
أنّ الهامش المتوفر من الحريات في إيران وبدرجة أوسع في تركيا لايمكن مقارنته بـ"هويمش"
الحريات في تونس. بالمقارنة بسيطة بين قانون المطبوعات في تونس وقانون المطبوعات
الإيراني وبعدد الإصلاحيين في البرلمان الإيراني. إذا أغلقت جريدة بقرار من السلطة
القضائية يمكن فتح أخرى.
الإسلاميون في تركيا من حزب السلامة إلى الرفاه إلى العدالة إذا حُلّ حزب يوجد آخر.
ثمة إطار من الحرية لا المعارضة الإسلامية ولا اللائكية في تونس تتمتع به. والحريات
الموجودة في إيران وبدرجة أكبر في تركيا تسمح بإنتاج تفكير جديد وتصوّر جديد لإقامة
مجتمع جديد. برز ذلك بشكل جليّ في تركيا العلمانية التي يسود فيها هذا النظام منذ
70 سنة ولم يتمتع حزب بالأغلبية المطلقة التي نالها حزب العدالة والتنمية في
الانتخابات الأخيرة. أمّا عن التجربة السودانية فإننا لم نكن نعرف البشير. لكن حسن
الترابي ومفكرين آخرين هناك من تأثر بهم. والتأثر يكون بكل تجربة إنسانية ناجحة.
لكن في الوقت الحاضر عندما ينظر الإسلاميون إلى التجربة التركية هناك نوع من
الانبهار بها. كيف عرفت التكيف مع مجتمع معقّد ومع المؤسسة العسكرية ومجتمع تسير
فيه الدولة بسياسة علمانية وجد معها الإسلاميون وتمكنوا من إيجاد مجال للنشاط
والعمل ويتكيّفوا مع الظروف… نحن في تونس لا الإسلاميون ولا أطراف المعارضة الجدية
يتمتعون بهامش الحرية المتوفر في تركيا. فالاستبداد التونسي فاق نظيره التركي أو
الإيراني.
نتمنّى
أن يتوفر لنا جوّ من الحريات نسعى لتحقيقه وذلك ما من شأنه أن يحدث فينا التطورات
والنقلة سواء داخل الحركة الإسلامية أو داخل حركات المعارضة بكافة أطيافها.
الحد الأدنى]لإقامة ائتلاف معاد للاستبداد[ هو الحقوق المضمونة في كافة العهود
والمواثيق الدولية
كلمة : هل هناك قاسم مشترك غير ظرفي لإقامة ائتلاف معاد للاستبداد في
تونس. وأيّ دور للإسلاميين في هذه المسألة ؟
عبد
الله الزواري : أنا أعتبر أن الحد الأدنى هو الحقوق المضمونة في كافة العهود
والمواثيق الدولية والتي يجب أن تتوفر لكل مواطن ومن واجبنا كإسلاميين أن نسعى إلى
تحقيقها والعمل من أجل ذلك مع أي طرف آخر مستعد لتحقيقها وحمايتها والتصدّي لكلّ من
يعتدي عليها. وهذا ليس تكتيكا أو ظرفيا بل حق مقدس حتى في الشرائع السماوية.
كلمة : هل يمكن أن نتصوّر تخلّصا من الاستبداد يتماشى مع ضمان نوع من
الاستقرار للتونسي في نمط عيشه وفي حاجياته اليومية وفي حقوقه الدنيا ؟ التجربة
التركية مثلا تعلّمنا أن حكومة رجب طيب أردوغان استطاعت أن توفّق بين الإصلاح
والاستقرار بضمان شيء من الاستمرارية داخل الدولة... كيف نستطيع تفعيل الصراع ضد
الاستبداد مع كسب بعض الأطراف التي توجد داخل الدولة الآن والتي يوظفها النمط
الاستبدادي ؟ كيف نحدث شرخا داخل هذه الأطراف ونكسب بعضا منها للرهان المذكور ؟
عبد
الله الزواري : هناك مثل يقول إنّ انتصارا كبيرا يأتي بانتصار أكبر منه وأنّ إخفاقا
كبيرا من شأنه أن يأتي بإخفاق أكبر منه. وشعبنا يسمع بأصوات المعارضة وبوجود أحزاب
المعارضة. ولكنّه لايكتفي بذلك. يريد أن يرى هذه المعارضة تحقق شيئا ما أمامه حتى
إذا أيّدها وسار في معارضة التعسف حقق مكاسب. في الوقت الحاضر يرى الشعب التونسي
المعارضة عاجزة عن تحقيق أشياء بسيطة. فكم من شخص أطرد من عمله بسبب انتمائه إلى
حزب معارض أو سحب منه جواز سفره... هناك معارك بسيطة لاسبيل للمعارضة عن التغافل
عنها. ولكن هل يمكن التصدّي للعسف دون حصول اضطراب ودون أن يشعر التونسي أنّه مهدّد
في بعض المكاسب ؟ صحيح هناك نوع من الاستقرار... ولكن لعلمك أنّ الشعب التونسي رغم
الخمسين سنة الأخيرة نسبة الأمّية فيه أكبر من نسبة الأمية في الشعب الفلسطيني الذي
يعيش في المخيمات والمنافي والحرب وهو أقل الشعوب أمية. الشعب الجزائري أكثر الشعوب
قراءة للجرائد رغم حياته المضطربة. فالاضطراب اليومي موجود ولكن مع ذلك الشعب
الفلسطيني بكوادره وكفاءاته يتفوق بكثير على الشعب التونسي. صحيح أنّ الإنسان
لايحبذ الاضطراب ولكنّه ليس بالضرورة مؤدّيا إلى فقدان مستوى العيش الذي يتمتع به
التونسي في الوقت الحاضر.
يجد
الإنسان نفسه أحيانا بين خيارات صعبة إمّا التصدّي للاستبداد والعسف ويقع اضطراب
وإمّا تكريس الاستبداد للمحافظة على مستوى العيش. أنا في هذه الموازنة أختار إيقاف
الاستبداد. ماهي مكاسب الشعب التونسي الآن ؟ 80 بالمائة مرهونين للمحلات
الإلكترومنزلية والسيارات الشعبية. كلهم موقوفون مع تأجيل التنفيذ. أنا أقول
وبصراحة فلينتهي التعسف. ويومئذ ستوجد الحكومة العادلة التي تراعي مصالح شعبها.
وإذا
فكرنا في المحافظة على الهدوء والجلوس على الربوة مقابل استمرار الهدوء أقول : أبشر
بعقود طويلة من الهدوء ومواصلة الاستبداد. أيّ نظام في العالم العربي سمح لنفسه
بالتخلي عن الحكم عبر انتخابات نزيهة ؟ لا يمكن عقلا لنظام دولة عربية أن يتخلى عن
السلطة لأنّه متورط في النهب والسرقات والظلم، وكلّ حكومة منتخبة ستعرّضه للخطر.
وإذا وقعت انتخابات نزيهة ويصعد طرف آخر غيره سيقوم النظام الحاكم بإثارة
الاضطرابات وخلق فرق الموت والميليشيات لا المعارضة. إن انتهاء الاستبداد وإيقافه
عند حده يكون حلاّ أمثل للشعب التونسي عوض مزايا وهميّة.
"قدرة
المعارضة في هذه المعركة
هي
أن توجد لنفسها أهدافا متدرجة من البسيط نحو المعقد"
كلمة : هل تعتقد أنه من الممكن كسب لمشروع إزالة الاستبداد بعض جهات
يتم حاليا توظيفها من طرف النظام بحكم انتمائها إلى الدولة ولكنّها في يقينها
لاتشاطره سياساته وخياراته ؟ هل يمكن تفعيل التناقضات داخل الجهاز بمحاصرة الدوائر
الاستبدادية وكسب الناس الذين لديهم دوافع وطنية نبيلة وهاجس خدمة الصالح العام ؟
عبد
الله الزواري : قدرة المعارضة في هذه المعركة هي أن توجد لنفسها أهدافا متدرجة من
البسيط نحو المعقد. فالسلطة تسلّط علينا مظالم كثيرة، علينا أن نبدأ بأصغر مظلمة
ونضع فيها كامل قوتنا لرفعها ليرى شعبنا ماقدمت المعارضة له ولو كان بسيطا. فالشعب
يمكن أن يساند تحركا بسيطا لايكلّفه كثيرا... علينا تدريبه ليدخل غدا تحركا أرقى ثم
في مرة لاحقة قد يخرج معك ليسهر في البرد احتجاجا على تزييف 1أو 2 بالمائة من
الانتخابات... نحن محتاجون إلى ثقافة جديدة وإلى خوض معارك بسيطة تتدرج شيئا فشيئا
حتى تصل إلى إيقاف الاستبداد عند حدّه. ونحن لسنا بحاجة إلى تضييع مكاسبنا نريد
تغييرا ديمقراطيا مع المحافظة عليها. لكن إذا وجدنا أنفسنا في معادلة إمّا وإمّا...
أقول تصفية الاستبداد وإيقافه ورفع يد الحزب الحاكم عن الشعب تلك هي الأولوية.
وتجارب المعارضة في جميع أنحاء العالم على ذمتنا نطبّق منها مايقدر عليه شعبنا...
اجرى الحوار عمر المستيري
Pour afficher les caractères arabes suivre la démarche suivante : Affichage / Codage / Arabe ( Windows )
To read arabic text click on the View then Encoding then Arabic (Windows).