هذا التحول النوعي في أوضاعنا
الداخلية يؤشر بعمق على تغير المعطيات و انقلاب التوازنات بصفة نهائية. تحول أدركه
العاملون على إيجاد البديل يمكن قراءته في مواقفهم و مبادراتهم و يفضح غياب الوعي
به تخبط مواقف الفاقدين للدليل و عجزهم على القطع نهائيا مع الحقبة الاستبدادية.
إن كل ما بقي من النظام الحالي اليوم لا يتعدى نمرا من ورق رغم حجم التعتيم و
المغالطات الذي وظفت له أجهزة الإعلام الرسمية و محاولات صرف الأنظار عن الشأن
الداخلي وتأليب المواطنين حول نعرات قومية مستغلة أوضاعا استثنائية في العراق و
فلسطين لمزيد تمكين الاستقالة و الإحباط و اليأس من قرب زوال كابوس الظلم و
الإنعتاق من الدكتاتورية.
لقد كان منطلق الحوارات التي دارت مند
صائفة 2001 بين شق هام من المعارضين تهدف إلى بناء تيار وطني يقطع نهائيا مع
المعارضة التقليدية باعتباره لا يهدف إلى التنافس على التواجد على هامش
الدكتاتورية بل يسعى إلى أن يكون بديلا لها عن طريق إنهائها و إعادة بناء السلطة
وفق قواعد الحكم الحكيم ( Bonne gouvernance ) و تعزيز دور المجتمع المدني و
تركيز دعائم دولة القانون و المؤسسات و ضمان ممارسة الحريات الفردية و الجماعية و
علوية القانون و استقلال القضاء و مرجعية الإرادة الشعبية في اختيار من يتولون
السلطة من خلال انتخابات حقيقية تضمن منافسة تعددية تسمح بالتداول على السلطة بصفة
سلمية و دورية. و قد كانت إرادة القطع مع رياء الخطاب الرسمي و معطلاته التسويفية
و التبريرية تلتزم بقراءة الممارسة الفعلية للسلطة كأداة قمع سياسي و حيف اقتصادي
في خدمة أقلية على حساب الأغلبية.
و قد أثمر هذا التيار إثراء النسيج
الجمعياتي بتأسيس مركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة و الجمعية الدولية لمساندة
المساجين السياسيين و فتح الفضاء الدستوري.
كما كان المقصود من هذا التيار أساسا
التصدي للنزعة الإقصائية داخل السلطة أو في بعض أوساط المعارضة التقليدية اقتناعا
بأن أي تيار يضع شروطا مسبقة للعمل السياسي لا يمكن أن يكون إلا وصائيا و يقود إلى
الدكتاتورية.
إلا أن مختلف المحطات التي شهدنها
الحركة الديمقراطية خلال هذه الفترة اصطدمت بنزعة إقصائية تبناها التيار اليساري
التقليدي و بالحسابات السياسوية المتخوفة من حصول تحول في موازين القوى بين مختلف
التيارات التقليدية يخاط الأوراق و يعيد رسم خريطة المنظومة السياسية.
و كانت الندوة التي انتظمت بمقر
الحزب الديموقراطي التقدمي حول تحوير الدستور في ماي 2002 كشفت و جود تيارات
انتهازية تناور لصفقة ضمها إلى المعارضة الوفاقية أكثر من انشغالها بالقضية
الدستورية. كما تبين أن تنظيمات غيرها تحكمها استراتيجياتها الذاتية الخاضعة لخطوط
حمراء أو سقف حقوقي لا يمكنها تجاوزه مما أفرغ الندوة من مضامينها السياسية.
هذه الوضعية أحدثت انشطارا داخل
المعارضة الديمقراطية سرعان ما تحول رهانه إلى البحث عن الهيمنة على مكونات
المجتمع المدني المستقلة. حيث و قع رفض انضمام مركز تونس لاستقلال القضاء و
المحاماة و الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين إلى ائتلاف الجمعيات
المستقلة الذي اكتفت فيه جمعية المحامين الشبان في هيئتها السابقة أيضا بحضور شكلي
و التي دفعت ثمن موقفها بإسقاطها في انتخابات تجديدها لصالح هيئة تجمعية و انحسر
العمل المشترك حول قضايا خارجية اختزلت في بيانات حول فلسطين و العراق.
و جاء صدور البيان المشترك للجمعيات
المستقلة في غياب الرابطة بعد انتخاب الأستاذ محمد نجيب حسني على رأس
المجلس الوطني للحريات بمثابة دق لناقوس الخطر بالنسبة لأصحاب النضرة الأحادية في
المعارضة و الذين يحملون نفس النضرة الوصائية التي تحملها السلطة على المجتمع
المدني كنسيج تابع يدور في فلك النظام الأحادي السائد. فوقعت الإطاحة به بطريقة
تذكرنا إلى حد بعيد بالمناورات التي تعمد لها السلطة لاسترجاع إي منظمة تحاول
الخروج عن طوقها و إخضاعها لإرادتها. كما وقت مقاطعة الهيئة التنفيذية لمركز تونس
لاستقلال القضاء و المحاماة من طرف العناصر المنتمية لهذا التيار و أصبح الترويج
للتصدي للتغلغل الإسلامي في المجتمع المدني يتم علنا و يروج له في البرلمان
الأوروبي و شبكات التضامن الدولية ووصل المدافعون عن حقوق الإنسان حد التوجه
للنظام لمطالبته بمزيد الحزم في التصدي لظاهرة انتشار الزي الإسلامي في وقت كانت
حملة الاضطهاد تطارد النساء في الطريق العام و تمنعهم من الدراسة و العمل متدخلة
في أخص خواصهم الذاتية و هي اختيار لباسهم في بلاد لازال ينص دستورها أن دينها
الإسلام.
و بدا جليا أن هنالك قضايا أولية
أساسية بحاجة إلى الحسم لتفعيل الحركة الديمقراطية يحاول الكثيرين تفادي عرضها
للنقاش العام ليس دونها مسألة الشرعية التي يستمدها البعض من اعتراف السلطة بهم
كأحزاب و جمعيات لبسط هيمنتهم على المجتمع المدني و المعارضة المستقلة و لممارسة الإقصاء
و المحاصرة عل كل من يخالفهم و التي تثير تساؤلات جدية حول تمثيلية المنظومة
الحالية لحقيقة القوى الفاعلة في الساحة الوطنية فاليسار التقليدي يواجهه ظهور
يسار جديد تميز بحضوره و حيويته في كل المستويات و على جميع الجبهات كما أن
الاستثناء الإسلامي الذي تتقوقع حوله المعارضة التقليدية لا يريد أن يستوعب
التحولات التي تمر بها الحركة الإسلامية التونسية وانخراطها الفعلي في النضال من
أجل دولة القانون و المؤسسات كما أن سمة اليسار التقليدية التي طبعت المعارضة
التونسية لم تعد تعبر عن أطياف قوى المعارضة المتواجدة بصفة فعلية على الساحة
الوطنية و أصبحت تشكل عامل يحول دون انفتاحها على الأجيال و التيارات الصاعدة و
يحكم عليها بالتقوقع و الجمود خارج سياق التطور الطبيعي للظروف و الأفكار التي
يفرضها السياق التاريخي و لم تعد تعطي صورة مشرقة و حية عن الديمقراطية التي تروج
لها من خلال ممارساتها الفعلية.
و قد جاءت ندوة إيكس التي انعقدت في
فرنسا لتقريب وجهات النظر و تدارك هذا الوضع بالوصول إلى أرضية مشتركة للمشروع
الديموقراطي و الفصل بين المستوى الحقوقي الذي ينشط فيه المجتمع المدني المستقل و
المستوى السياسي الذي يجب أن تضطلع به أحزاب المعارضة و الارتقاء بأداء هذه
الأخيرة من المعارضة الاحتجاجية إلى المشروع السياسي التعددي المتكامل. إلا أن
الانسحابات التي حصلت في آخر لحظة و الزوبعة التي أثيرت حول عقدها أكدت استحكام
الحسابات السياسوية الضيقة في كل إستراتيجية عمل مشترك و عدم استعداد القوى
المهيمنة على المنظومة الحالية للمعارضة بالمجازفة بمواقعها و خوض اللعبة
الديمقراطية بكل شفافية و تلاؤم مصالحها الخاصة مع المجال الضيق الذي رسمته لها
الدكتاتورية. و أكد هذا الوضع نجاح السلطة في أن تجعل من سياسة الاستئصال القاعدة
المشتركة التي تلتقي عليها مع المعارضة "الديمقراطية"
ثم جاءت مسألة التحالفات حول الموقف
من انتخابات العميد و الهيئة الوطنية للمحامين لتزيد الأمور تعقيدا و تخلط الأوراق
بصفة نهائية.
و لئن قدم اليسار مرشحين للعمادة و
لرئاسة فرع تونس مدعومين من الخلية التابعة للحزب الحاكم بعد أن نجح في إسقاط
الهيئة المستقلة للجمعية التونسية للمحامين الشبان عن طريق نفس التحالف فأنه حافظ
على مساندة لفظية للعميد المتخلي.
بينما اختلفت التقييمات في تناول
القضية في بقية الأوساط بين منادي بعدم التفريط في هذه المؤسسة و الالتفاف حول
العميد السابق للتصدي لمخططات السلطة لإسقاطه و بين من يرى أن الائتلاف الذي أوصل
العميد السابق لم يعد قائما و أنه يجب النظر إلى القضية من مصلحة عموم المحامين و
التي لا تقتضي بالضرورة التجديد و من وجهة نظر ديمقراطية و التي تتطلب عدم القبول
بتواصل تحويل منظمات قومية إلى منابر لتيارات سياسية.
لذلك تغلب الرأي الداعي لتكريس مبدأ
التداول و ذلك من خلال البحث على شخصية وفاقية لمجابهة مرشح السلطة.
إلا أن إعلان الأستاذ عبد الرؤوف
العيادي ترشحه و إصراره على التمسك به رغم توضح عدم قابليته لجمع جبهة قادرة على
أن تجعل منه مرشح جدي للمراهنة على العمادة زاد في تعميق الشرخ داخل الأطراف
الساعية إلى بناء تيار وطني مستقل قادر على تعديل الكفة داخل المعارضة التونسية و
ذلك بين من يبحث على إخراج التيار الوطني من التقوقع داخل الأطر الهامشية ( Microcosme ) التي سقطت فيها المعارضة
التقليدية و ذلك عن طريق مرشح مستقل من خارج هذا التيار في شخص الأستاذ عبد الجليل
بوراوي أو الأستاذ محمد المكشر يكون مقدمة لانفتاح التيار الوطني على أوساط واسعة
من غير المعارضة التقليدية و بين من يرى أنه لا معنى للرهان على العمادة خارج دعم
مرشح ينتمي للمعارضة الحقيقية و تتوفر فيه كل الضمانات المبدئية. و قد رفض أصحاب هذا
الرأي الأخير حسم المسألة بصفة ديمقراطية رغم وضوح انحسارهم في أقلية.
و قد انعكست المحصلة النهائية لهذه
التجاذبات على المواقف من الانتخابات التشريعية و الرئاسية الحالية بين حدين :
- اليأس نهائيا من أي دور للمعارضة
في الفترة الحالية و اختيار الانضواء تحت لافتة النظام بصفة علنية
- اليأس من قيام جبهة ديمقراطية
وطنية و الدعوة لمقاومة الدكتاتورية و جعل هدف إسقاط الرئيس الحالي مدخل لكل تغيير
حقيقي في اتجاه الديمقراطية.
و يتنزل بين الموقفين "المبادرة الديمقراطية" التي
تلتقي مع النظام في استئصال النزعة الإسلامية و تختزل الحداثة في قيام دولة
علمانية. وبين الداعين لانتخابات حقيقية و المزدرين للمهزلة الحالية.
و لعل أي تقييم تفاضلي لهذه المواقف الظرفية في المرحلة
الحالية غير مجدي باعتباره لا يمكن أن يعكس سوى المقاييس الذاتية و التبريرات
الخاصة التي دفعت كل طرف لاختيار إستراتيجيته الحالية. ذلك أن المطلع عن قرب على
المحددات التي قادت إلى مختلف هذه المواقف لا يجد اختلافا بين الذين اختاروا
الهروب إلى الوراء أو إلى الأمام في قناعتهم بالمعضلة السياسية التي أصبح يشكلها
نظام الحكم في صورته الحالية و في عدم قدرته على الاستجابة للتطلعات المشروعة
للغالبية العظمى من التونسيين في نظام أكثر عدالة و أوسع حرية.
فإذا كانت الدكتاتورية تدرك جيدا أن أي تنازل أو انفتاح جدي
من جانبها لا يمكن أن يقابله سوى تقوية الأصوات المنادية بمزيد من الحريات و
الديمقراطية و يجعلها أضعف في التصدي لمطالب إضافية فإن مختلف التيارات التقليدية
تعيش بدورها أزماتها الذاتية التي لا تقل حدة و تعقيدا و تدرك أن أي تحول جوهري في
مواقفها سيؤدي بها إلى فقدان المزيد من مواقعها و جلي في ضل هذا المأزق أن
التعددية لا تخلق لوحدها ديمقراطية و أننا بحاجة إلى أخلاق سياسية جديدة تنهي
وصاية النخبة و تعمل على جعل الدعوة لانتخابات حقيقية مطلب وطني يعيد المرجعية
الشعبية لشرعية السلطة السياسية و مقياس التمثيلية الانتخابية لوزن التيارات
السياسية و يسقط كل الحسابات الوصائية.
المختار اليحياوي
تونس – أكتوبر 2004
http://www.mytunisie.tk
http://www.yahyaoui.blog-city.com