لكن
تعتري المتابع للشأن العام حيرة ويجد نفسه مدعو لوضع بعض نقاط الإستفهام حول ردّ
الفعل الغاضب هذا، خاصة إذا ما علمنا بأن ما روى عن انتهاكات سجن أبو غريب لا
يجعلها تتجاوز فظاعة ما يحصل بسجون تونس ومقرات الفرق والمراكز الأمنية ومقر
وزارة الداخلية دون أن يلاقي الأمر اهتمام مماثل. فهل أن للمسألة علاقة بقنديل
باب منارة الذي لا " يضوي كان على البَرّاني "؟ أم هو مرض من أمراض العين يتمثل
في القدرة على الرؤية عن بعد وضعف النظر عن قرب بحيث لا ننظر لإخواننا إلاّ عن
مسافة لا تقل عن 2400 كلم ؟
يبدو أن
جوابا موضوعيا يستوجب عدم التغافل عن المسألة الإعلامية ففضيحة أبو غريب قد تحدثت
عنها كافة وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية فحتى قناة تونس 7 عرضت صور التعذيب
وجرائد التعتيم الإعلامي فعلت نفس الشيء وبالتالي فإن الخبر قد بلغ الجمهور
العريض عكس أخبار الإنتهاكات في تونس التي لم تنشر إلا بفضل الأنترنيت التي لا
يطالعها كثير من الناس أو بفضل قناة المستقلة التي عرفت إقبالا جماهيريا لمدة
وجيزة قبل أن يكتشف صاحبها مزايا وامتيازات " الإعتدال" . وهذا ما قد يفسّر عدم
علم الجمهور العريض بما يقترف من فظائع في تونس من طرف أبناء البلد. ومع ذلك فإنه
لا بد من عدم التغافل عن معطى آخر متصل بموروث حضاري وهو كره الأجنبي ونبذ
المستعمر مع قبول الإستبداد المحلي الذي يمارسه المستبد المسلم الذي ذهب بعض الفقهاء
لحدّ القول بأن العيش في ظلّه سبعين سنة خير من الفتنة. يضاف لذلك أن التونسي
الذي ينتقد الأمريكان لا يخشى على نفسه مكروها على عكس نقد ابن الوطن الذي قد
يكلف ثمنا باهضا يبدو أن الكثيرين لا يرغبون في بذله.
ومشكلة
التضحية هذه على درجة كبيرة من الأهمية في الموضوع فإذا أخذنا مثلا المحامين
الذين اعتادوا التطوع للدفاع عن ضحايا القضايا السياسية فإننا سنجد أن عددهم ضعيف
في تونس ولا أعرف الرقم في بقية الدول العربية سوى أنّ عدد الراغبين في الدفاع عن
صدام حسين كبير الدكتاتوريين العرب قد بلغ الألفين وخمسمائة محاميا عربيا تراجعوا
جميعا عن السفر إلى العراق بمجرد أن علموا أن حياتهم في خطر وهو ما يتنافى حسب
رأيي مع إيمانهم بالقضية سواء كانت القضية توفير محاكمة عادلة لإنسان أو الدفاع
عن قائد فذ لن تلد الأمهات مثله أبدا.
وفي
رأيي المتواضع-وأرجو أن أكون مخطئا- فإن منّا من لا يقبلون بفقدان صفة المناضل
أمام الجمهور دون أن يكونوا مستعدين لتحمل نتيجة باهضة لنضالهم فتكون القضية
الفلسطينية والعراقية هي المخرج لهم، يناضلون فيهما نضالا مريحا وهم في الحقيقة
غير قادرين على تقديم أي معونة فعلية لإخواننا في فلسطين والعراق وإنما في
المقابل يكرسون بقاء المستبدّ المحليّ بشغل الناس عن التصدّي له ولفت انتباههم
إلى من سواه.
إن
العراقيّين قادرون لوحدهم على الخروج من وضعية الإحتلال والفوضى فمنهم من يتعاطى
مع المسألة تعاطيا سياسيا بكل حنكة وفاعلية ومنهم من اختار النضال المسلح لإخراج
المحتل وأثبت شجاعة وقدرات قتالية عالية بما يجعلهم جميعا في غنى عن توجيه كل
جهدنا لدعمهم. والتونسيون والحمد لله قد سجل لفائدتهم شرف الجهاد في صفوف إخوانهم
الفلسطينيين والعراقيين بفضل بعض أبنائهم أما العار فإنه لم يلحقنا لا من
الصهاينة ولا من الأمريكان وإنما من إجراءات وأحكام قاسية صدرت باسم الشعب
التونسي ضد من كانوا يحلمون بالجهاد في فلسطين كشبان جرجيس وشبان أريانة دون أن
يثبت أنهم ارتكبوا فعلا مجرما في تونس ، والعار أيضا قد لحقنا لكون ما ارتكبه
الأمريكان في سجن أبو غريب من تعذيب وصعق بالكهرباء واعتداءات جنسية وتعرية
للمساجين لم تبلغ وحشية ما تجرأ التونسي على فعله بأخيه التونسي من قلع الأضافر
وإدخال العصي بالدبر وحرق بالسجائر وإدخال للأسلاك داخل أعضاء التناسلية ومفاحشة
الإناث والذكور وإلزام الضحايا بأكل الغائط وتوسيع دائرة الضحايا لتشمل العائلات
أحيانا وجملة من التقنيات التي ينبغي أن يخجل منها كل من سكت عليها بداية من
رؤساء المعذبين المباشرين مرورا بالشعب التونسي وصولا إلى رئيس الدولة الساهر
عملا بالدستور على حماية الدستور والقانون والذي لا يمكن أن يكون إلا في حالة من
اثنين إمّا غير عالم بما يقترفه موظفو الدولة وهو في هذه الحالة غير أهل لمنصبه و
إما عالما وساكتا عن ذلك أو آمرا به وهو في هذه الحالة لا يستحق أ ن يحكم
التونسيين ولا حتى الهوتو والتوتسي. ولمن كان يبرر أو يفسر قمع النظام في أوائل
التسعينات باضطراره للتصدي لحركة قوية كانت تهدد الأمن العام والإستقرار والسير
العادي للمؤسسات -على فرض صحة ذلك- فكيف يمكنه له تفسير الإعتداءات اللاحقة التي
تعرض لها الإسلاميون والمتهمون بكونهم إسلاميين واليساريون وحتى متهمو الحق
العام؟ وكيف يمكن تفسير الإعتداءات على السجين نبيل الواعر بالزنزانة الإنفرادية
بسجن برج الرومي ومفاحشته من طرف أربعة سجناء بناء على تعليمات إدارة السجن؟ وكيف
يمكن تفسير منع القضاء من القيام بواجبه في النظر في شكايات المعتدى عليهم من طرف
أعوان السلطة وأصحاب النفوذ.
لا بد
أن نصارح أنفسنا اليوم بأن غزو العراق قد كانت له آثار سلبية على التونسيين الذين
يبدو أن حالة من الإحباط قد أصابتهم على إثره كان من نتائجها الإعراض عن الإهتمام
بالشأن العام وخاصة شأن بلادهم في وقت كان من المفروض أن تتجه فيه الجهود للبحث
عن مخرج لأزمتها.
أمّا
أحلامنا العربية فإنه قد ثبت أنّ الزعماء لم يحققوا منها شيئا لا بشعاراتهم ولا
بجيوشهم ولم يبق من حلّ إلاّ نضال كلّ العرب في بلدانهم من أجل التخلّص من
الإستبداد وإقامة أنظمة ديمقراطية نعبّر عن إرادة شعوبها وساعتها فلن نقف قوة في
وجه تحقيق الوحدة العربية وساعتها يمكننا أن نجد حلا لقضية فلسطين ولغيرها من
القضايا.
وأمّا
شبابنا الذي يحلم بالجهاد في صفوف المقاومة العراقية والذي أوقف بعضه وأحيل على
القضاء لمجرّد التفكير في السفر للعراق على أساس قانون الإرهاب فإنّي شخصيا
أناشدهم أن يحوّلوا أرض الجهاد إلى تونس وإذا كان جهادهم في العراق يقتضي استعمال
السلاح والقتل فإنهم في تونس لا يحتاجون لأكثر من كلمة حق عند سلطان جائر يتسبب
هو وأمثاله في بقية الدول العربية في تخلّفنا وذلك طبعا بعد إصلاح النفس من
السلوكات الضارة بالوطن كالإرشاء "وتدبير الرأس" والأنانية والنفاق وبعد نيل حدّ
أدنى من ثقافة وعلم ضرورة أن الشجاعة لوحدها لا تكفي ولا أدل على ذلك من
المجاهدين الأفغان البواسل الذين أداروا أسلحتهم نحو بعضهم البعض حال الفراغ من
تحرير وطنهم لغياب المشروع السياسي الواضح ولعدم فهم لغة العصر والثقافة
الديمقراطية. كما إن أذكر هؤلاء الشبان التونسيين الشجعان أن خروجهم للجهاد في
العراق لن يفيد العراقيين ولن يفيد تونس وإنما سيستفيد منه النظام القائم هنا
بظهوره بمظهر الصديق المنخرط في المشروع الأمريكي لمقاومة الإرهاب بينما يفترض
بنا أن نفضح سياسته فهو الذي يمارس الإرهاب و يؤسس له ويروي جذوره بقمعه وظلمه
وتلفيق التهم للأبرياء وبصدّه لكل الأبواب نحو التغيير السلمي في البلاد. كما أني
أدعو الذين يجهدون أنفسهم بمقاطعة البضائع الأمريكية أنّ يبدؤوا بمقاطعة البضائع
والمؤسسات التي تملكها العائلات المدعومة بالنفوذ السياسي والتي كونت بفضل هذا
النفوذ ثروات طائلة في مدة وجيزة فإعداد قائمة فيها ومقاطعتها عمل وطني يجب أن
ينخرط فيه الجميع في غياب وسيلة أخرى لكبح جماح طمعها.
عندما
ننجح في ترتيب بيتنا الداخلي و إحداث تغيير إيجابي في بلادنا، يمكننا ساعتها أن
ننظر إلى الأعلى
محمد
عبّو تونس في 25/08/2004